الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:{هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}.قوله تعالى: {مِنْهُ لَحْمًا} يجوز في {منه} تعلُّقُه ب {لتأكلوا}، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرة بعده، و{مِنْ} لابتداء الغاية أو للتبعيضِ، ولابد مِنْ حذفِ مضافٍ، أي: مِنْ حيوانِه.و{طَرِيًّا} فَعِيْل مِنْ طَرُوَ يَطْرُوْ طَراوةً كسَرُوَ يَسْرُوْ سَراوَةً، وقال الفراء:بل يقال: طَرِيَ يَطرَى طَراوةً وطَراء مثل: شَقِيَ يَشْقَى شَقَاوَةً وشَقاء، والطَّراوةُ ضد اليَبُوسة، أي: غَضًا جديدًا، ويُقال: الثيابُ المُطَرَّاة، والإِطراء: مَدْحٌ تَجَدَّد ذِكْرُه، وأمَّا طَرَأَبالهمز فمعناه طَلَع.قوله: {حِلْيةً} الحِلْيَةُ: اسمٌ لِما يُتَحَلَّى به، وأصلُها الدلالةُ على الهيئة كالعِمَّة والخِمْرَة، و{تَلْبَسُونها} صفةٌ، و{منه} يجوز فيه ما جاز في {منه} قبله، وقوله: {تَرَى} جملةٌ معترضةٌ بين التعليلين وهما {لتأكلوا} و{لِتَبْتَغُوا}، وإنما كانَتْ اعتراضًا لأنها خطابٌ لواحد بين خطابين لجمعٍ.قوله: {فيه} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب {ترى}، وأَنْ يتعلَّقَ ب {مواخِرَ} لأنها بمعنى شَواقَّ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ {مَواخِر}، أو مِنَ الضميرِ المستكنِّ فيه.و{مَواخِر} جمع ماخِرة، والمَخْرُ: الشَّقُّ، يُقال: مَخَرَتِ السفينةُ البحرَ، أي: شَقَّتْه، تَمْخُره مَخْرًا ومُخُوراٌ، ويقال للسُّفُنِ: بناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ بالميم، والباء بدل منها، وقال الفراء: هو صوتُ جَرْيِ الفُلْكِ، وقيل: صوتُ شدَّةِ هُبوبِ الريحِ، وقيل: بناتُ مَخْرٍ لسَحابٍ ينشَأُ صَيْفًا، وامْتَخَرْتُ الريحَ واسْتَمْخَرْتُها، أي: استقبلْتَها بأنفك، وفي الحديث: «اسْتَمْخِروا الريحَ، وأَعِدُّوا النُّبَلَ» يعني في الاستنجاء، والماخُور: الموضع الذي يُباع فيه الخمرُ، و{ترى} هنا بَصَريَّةٌ فقط.قوله: {ولِتَبْتَغُوا} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: عطفُه على {لتأكلوا}، وما بينهما اعتراضٌ-كما تقدَّم- وهذا هو الظاهرُ. ثانيها: أنه عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتَغُوا، ذكره ابن الأنباري، ثالثُها: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فَعَل ذلك لتبتغوا، وفيهما تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه. اهـ..تفسير الآيات (15- 18): {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)}.مناسبة الآيات لما قبلها: قال البقاعي:ولما ذكر الأغوار، الهابطة الضابطة للبحار، أتبعها الأنجاد الشداد، التي هي كالأوتاد، تذكيرًا بما فيها من النعم فقال: {وألقى في الأرض} أي وضع فيها وضعًا، كأنه قذفه فيها قذفًا، جبالًا {رواسي} مماسة لها ومزينة لنواحيها، كراهة {أن تميد} أي تميل مضطربة يمينًا وشمالًا، أي فيحصل لكم الميد، وهو دوار يعتري راكب البحر {بكم} فهي ثابتة لأجل ذلك الإلقاء، ثابتة مع اقتضائها بالكرية التحرك.ولما ذكر الأوهاد، وأتبعها الأوتاد، تلاها بما تفجره غالبًا منها، عاطفًا على {رواسي} لما تضمنه العامل من معنى {جعل} فقال: {وأنهارًا} وأدل دليل على ثبات الأرض ما سبقها من ذكر البحار، ولحقها من الحديث عن الأنهار، فإنها لو تحركت ولو بمقدار شعرة في كل يوم لأغرقت البحارُ من إلى جانب الانخفاض، وتعاكست مجاري الأنهار، فعادت منافعها أشد المضار، ولو زادت البحار، بما تصب فيها الأنهار، على مر الليل وكر النهار، لأغرقت الأرض، ولكنه تعالى دبر الأمر بحكمته تدبيرًا تعجز عن الاطلاع على كنهه أفكار الحكماء، بأن سلط حرارة الشمس على الأرض في جميع مدة الصيف وبعض غيره من الفصول، فسرت في أغوارها، وحميت في أعماقها في الشتاء، فأسخنت مياه البحار وغيرها فتصاعدت منها بخارات كما يتصاعد من القدر المغلي بقدر ما صبت فيها الأنهار، فانعقدت تلك البخارات في الجو مياهًا لما بردت، فنزل منها المطر، فأحيا الأرض بعد موتها، وتخلل أعماقها منه ما شاء الله، فأمد الأنهار، ولذلك تزيد بزيادة المطر وتنقص بنقصه، وهكذا في كل عام، فأوجب ذلك بقاء البحر على حاله من غير زيادة، فسبحان المدبر الحكيم العزيز العليم! ولما ذكر ذلك، أتبعه ما يتوصل به إلى منافع كل منه فقال تعالى: {وسبلًا}.ولما كانت الجبال والبحار والأنهار أدلة على السبل الحسية والمعنوية، قال تعالى: {لعلكم تهتدون} أي يحصل الاهتداء فتهتدوا إلى مقاصدكم.ولما كانت الأدلة في الأرض غير محصورة فيها، قال: {وعلامات} أي من الجبال وغيرها، جمع علامة وهي صورة يعلم بها المعنى من خط، أو لفظ أو إشارة أو هيئة، وقد تكون علامة وضعية، وقد تكون برهانية.ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأعمها وأوضحها برًا وبحرًا ليلًا ونهارًا، نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظن أن المخاطب مخصوص، وأن الأمر لا يتعداه، فقال تعالى: {وبالنجم هم} أي أهل الأرض كلهم، وأولى الناس بذلك أول المخاطبين، وهم قريش ثم العرب كلها، لفرط معرفتهم بالنجوم {يهتدون} وقدم الجار تنبيهًا على أن دلالة غيره بالنسبة إليه سافلة.ولما لم يبق- بذكر الدلائل على الوحدانية على الوجه الأكمل، والترتيب الأحسن، والنظم الأبلغ- شبهة في أن الخالق إنما هو الله، لما ثبت من وحدانيته، وتمام علمه وقدرته، وكمال حكمته، لجعله تلك الدلائل نعمًا عامة، ومننًا تامة، مع اتضاح العجز في كل ما يدعون فيه الإلهية من دونه، واتضاح أنه سبحانه في جميع صنعه مختار، للمفاوتة في الوجود والكيفيات بين ما لا مقتضى للتفاوت فيه غير الاختيار، فثبت بذلك أنه قادر على الإًّتيان بما يريد.قال مسببًا عن ذلك: {أفمن يخلق} أي يجدد ذلك حيث أراد ومتى أراد فلا يمكن عجزه بوجه لتمكن شركته {كمن} شركته ممكنة، فهو أصل في ذلك بسبب أنه {لا يخلق} أي لا يقع ذلك منه وقتًا ما من الأصنام وغيرها، في العجز عن الإتيان بما يقوله؛ المستلزم لأن يكون ممكنًا مخلوقًا، ولو كان التشبيه معكوسًا كما قيل لم يفد ما أفاد هذا التقدير من الإبلاغ في ذمهم بإنزال الأعلى عن درجته، وعبر ب {من} لأنهم سموها آلهة، وأنهى أمرها أن تكون عاقلة، فإذا انتفى عنها وصف الإلهية معه لعدم القدرة على شيء انتفى بدونه من باب الأولى.ولما سبب عن هذه الأدلة إنكار تسويتهم الخالق بغيره في العجز، سبب عن هذا الإنكار إنكار تذكرهم، حثًا لهم على التذكر المفيد لترك الشرك فقال: {أفلا تذكرون} بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه- بما أفاده الإدغام- لتذكروا ما يحق اعتقاده.ولما كانت المقدورات لا تحصر، وأكثرها نعم العباد مذكرة لهم بخالقهم، قال تعالى ممتنًا عليهم بإحسانه من غير سبب منهم: {وإن تعدوا} أي كلكم {نعمة الله} أي إنعام الملك الذي لا رب غيره، عليكم وإن كان في واحدة فإن شعبها تفوت الحصر {لا تحصوها} أي لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كفرها وإعراضكم جملة عن شكرها، فلو شكرتم لزادكم من فضله.ولما كانوا مستحقين لسلب النعم بالإعراض عن التذكير، والعمى عن التبصر، أشار إلى سبب إدرارها، فقال تعالى: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال بجميع صفات الإكرام والانتقام {لغفور رحيم} فلذلك هو يدر عليكم نعمه وأنتم منهمكون فيما يوجب نقمه. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)}.اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض.فالنعمة الأولى: قوله: {وألقى في الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} وفيه مسألتان:المسألة الأولى:قوله: {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} يعني لئلا تميد بكم على قول الكوفيين وكراهة أن تميد بكم على قول البصريين، وذكرنا هذا عند قوله تعالى: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176]، والميد الحركة والاضطراب يمينًا وشمالًا يقال: ماد يميد ميدًا.المسألة الثانية:المشهور عن الجمهور في تفسير هذه الآية أن قالوا: إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء، فإنها تميد من جانب إلى جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فاستوت.قالوا فكذلك لما خلق الله تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت ومادت، فخلق الله تعالى عليها هذه الجبال الثقال فاستقرت على وجه الماء بسبب ثقل هذه الجبال.ولقائل أن يقول: هذا يشكل من وجوه: الأول: أن هذا التعليل إما أن يذكر مع تسليم كون الأرض والماء ثقيلة بالطبع أو مع المنع من هذا الأصل ومع القول بأن حركات هذه الأجسام بطباعها أو ليست بطباعها بل هي واقعة بتخليق الفاعل المختار، أما على التقدير الأول فهذا التعليل مشكل، لأن على هذا الأصل لا شك أن الأرض أثقل من الماء، والأثقل من الماء يغوص في الماء ولا يبقى طافيًا عليه وإذا لم يبق طافيًا عليه امتنع أن يقال: إنها تميد وتميل وتضطرب، وهذا بخلاف السفينة لأنها متخذة من الخشب وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء، فلهذا السبب تبقى الخشبة طافية على الماء فحينئذ تضطرب وتميد وتميل على وجه الماء فإذا أرسيت بالأجسام الثقيلة استقرت وسكنت فظهر الفرق، وأما على التقدير الثاني وهو أن يقال: ليس للأرض ولا للماء طبائع توجب الثقل والرسوب والأرض إنما تنزل، لأن الله تعالى أجرى عادته بجعلها كذلك وإنما صار الماء محيطًا بالأرض لمجرد إجراء العادة، وليس هاهنا طبيعة للأرض ولا للماء توجب حالة مخصوصة فنقول: فعلى هذا التقدير علة سكون الأرض هي أن الله تعالى يخلق فيها السكون وعلة كونها مائدة مضطربة هي أن الله تعالى يخلق فيها الحركة وعلى هذا التقدير فإنه يفسد القول بأن الأرض كانت مائلة فخلق الله الجبال وأرساها عليها لتبقى ساكنة، لأن هذا إنما يصح إذا كان طبيعة الأرض توجب الميدان وطبيعة الجبال توجب الإرساء والثبات، ونحن إنما نتكلم الآن على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكل على كل التقديرات.السؤال الثاني: هو أن إرساء الأرض بالجبال إنما يعقل لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء من غير أن تميد وتميل من جانب إلى جانب، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفًا فنقول: فما المقتضى لسكون ذلك الماء ووقوفه في حيزه المخصوص، فإن قلت: المقتضي لسكونه في ذلك الحيز المخصوص هو أن طبيعته المخصوصة توجب وقوفه في ذلك المعين، فلم لا تقول: مثله في الأرض وهو أن الطبيعة المخصوصة التي للأرض توجب وقوفها في ذلك الحيز المعين وذلك يفيد القول بأن الأرض إنما وقفت بسبب أن الله تعالى أرساها بالجبال.فإن قلت: المقتضى لسكون الماء في حيزه المعين هو أن الله تعالى سكن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص، فلم لا تقول مثله في سكون الأرض، وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضًا.السؤال الثالث: أن مجموع الأرض جسم عظيم، فبتقدير أن تميد كليته وتضطرب على وجه البحر المحيط لم تظهر تلك الحالة للناس.فإن قيل: أليس أن الأرض تحركها البخارات المحتقنة في داخلها عند الزلازل، وتظهر تلك الحركات للناس فبم تنكرون على من يقول: إنه لولا الجبال لتحركت الأرض، إلا أنه تعالى لما أرساها بالجبال الثقال لم تقو الرياح على تحريكها.قلنا: تلك البخارات إنما احتقنت في داخل قطعة صغيرة من الأرض، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ظهرت تلك الحركة.قال القائلون بهذا القول: إن ظهور الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضو معين من بدن الإنسان أما لو حركت كلية الأرض لم تظهر تلك الحركة، ألا ترى أن الساكن في السفينة لا يحس بحركة كلية السفينة وإن كانت واقعة على أسرع الوجوه وأقواها فكذا ههنا، فهذا ما في هذا الموضع من المباحث الدقيقة العميقة والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة، وثبت أن هذه الجبال على سطح هذه الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة.إذا ثبت هذا فنقول: لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت الأرض كرة حقيقية خالية عن الخشونات والتضريسات لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لأن الجرم البسيط المستدير إما أن يجب كونه متحركًا بالاستدارة على نفسه وإن لم يجب ذلك عقلًا إلا أنه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه، أما لما حصل على ظاهر سطح كرة الأرض هذه الجبال وكانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكل واحد من هذه الجبال إنما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم وتوجه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم وقوته الشديدة يكون جاريًا مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة، فكان تخليق هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها عن الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من الميد والميل والاضطراب بمعنى أنها منعت الأرض من الحركة المستديرة، فهذا ما وصل إليه بحثي في هذا الباب. والله أعلم بمراده.
|